فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الزلزلة:

نزولها: مدنية.. نزلت بعد سورة النساء عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: خمس وثلاثون.
عدد حروفها: مائة وتسعة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة البينة قبل هذه السورة بما يلقى الكافرون، من عذاب، خالدين في النار، وبما يلقى المؤمنون، من نعيم، خالدين فيه خلودا مؤبدا في الجنة.
وجاءت سورة الزلزلة محدثة بهذا اليوم الذي يجزى فيه كل من الكافرين والمؤمنين هذا الجزاء الذي يستحقه كل فريق منهم، فكان عرض هذا اليوم، وإخراج الناس فيه من قبور هم للحساب والجزاء- كان عرض هذا اليوم منظورا إليه من خلال صورتى النار والجنة اللتين تحدث عنهما السورة السابقة- كان أبعث المرهبة منه، والخشية من لقائه.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 8):

{إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها} هذا من إرهاصات يوم البعث والنشور، حيث تزلزل الأرض وتضطرب، وهذا الزلزال الذي سيقع لها يوم البعث، هو زلزال خاص بهذا اليوم، ولهذا أضيف إليها في قوله تعالى {زلزالها} وكأنه هو الزلزال الوحيد الذي تزلزله، {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [1: الحج]. أما ما يحدث من زلزال للأرض فيما قبل هذا الزلزال، فلا حساب له، إذا نظر له من خلال هذا هذا الزلزال العظيم.
وفى هذا اليوم تخرج الأرض أثقالها، أي ما حملت في بطنها من أموات، فكأنها تلدهم من جديد، كما تلد الأم أبناءها، بعد أن يتم حملها، وتثقل به بطنها.. كما يقول سبحانه: {فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [189: الأعراف].
وقوله تعالى: {وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها}؟ هو سؤال عجب ودهش، يسأله الإنسان نفسه بعد أن تلفظه الأرض من بطنها، وتلقى به على ظهرها.. إنه ينكر هذا الذي حدث.. لقد كان في بطن الأرض، فماذا أخرجه منها؟ وماذا يراد به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا}؟ (51- 52 يس).
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} هو جواب الشرط {إذا} في قوله تعالى: {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} أي في هذا اليوم، يوم البعث والنشور، الذي تزلزل فيه الأرض- تحدث الأرض {أخبارها} أي تظهر الأرض أخبارها التي كانت مكنونة في صدرها.
وفى التعبير عن إظهار أخبارها بالتحديث- إشارة إلى أن أحداثها التي يراها الناس يومئذ، هي أبلغ حديث، وأظهر بيان، فهو شواهد ناطقة بلسان الحال، أبلغ من لسان المقال.
وفى التعبير عن خبء الأرض، وما تخرجه من بطنها بلفظ الأخبار- إشارة أخرى إلى أن هذه الأسرار المضمرة التي كانت مخبوءة في صدر الأرض، قد أعلنت وأصبحت أخبارا يعلمها الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله، وقد سئل صلوات اللّه وسلامه عليه عن معنى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها}.
فقال: «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا».
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها} أي تنشر أخبارها، وتظهر أسرارها، وتخرج خبأها.
{إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها}.
فالضمير ها الذي يعود إلى الأرض في {زلزالها} و{أثقالها} و{ما لها} و{أخبارها} يشير إلى أمور خاصة بالأرض في هذا اليوم، يوم ينفخ في الصور، للبعث والنشور.. فللأرض في هذا اليوم زلزالها الذي ينتظرها، ولها أثقالها التي تخرجها، ولها هذا التساؤل الذي يتساءله الناس عنها، ولها حديثها الذي تحدثه للناس، وعن الناس، في هذا اليوم الموعود.
وليس هذا الذي رآه الناس من أحداث الأرض يومئذ هو من تلقاء نفسها، وإنما ذلك بما أوحى به إليها ربّها، وما أمرها اللّه به، فامتثلت له، وأمضته كما أمر اللّه.
وفى قوله تعالى: {أوحى لها} إشارة إلى أنها بمجرد الإشارة إليها من اللّه، خضعت لمشيئة اللّه.. فلم تكن في خضوعها لربها محتاجة لأن يردّد عليها القول، أو يؤكد لها الأمر.. بل هو مجرد اللمح والإشارة.. وهذا هو شأن الخاضع المطيع، الذي لا إرادة له مع من يأمره.. إنه لا يحتاج إلى أمر صريح مؤكد، بل تغنى الإشارة عن العبارة.
فالوحى هنا، هو التلميح، دون التصريح، والإشارة دون العبارة.. وهذا من معنى قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} أي حق ووجب عليها الامتثال والطاعة.
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ}.
أي في هذا اليوم، يوم البعث، يصدر الناس، أي يجيء الناس، صادرين من قبورهم {أشتاتا} أي أفرادا، متفرقين، كأنهم جراد منتشر، إلى حيث يردون على المحشر في موقف الحساب.. فللناس في هذا اليوم صدور، وورود.
صدور من القبور، وورود إلى المحشر.
وقوله تعالى: {لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ} هو تعليل لهذا الصدور، أي وذلك ليروا أعمالهم التي عملوها في الدنيا. {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ}.
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
أي فمن يعمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير، يره خيرا في الآخرة، ومن يعمل في دنياه مثقال ذرة من شر، يره شرا يوم القيامة.. فليس المراد برؤية الأعمال تجرد الرؤية، وإنما المراد هو ماوراء هذه الأعمال من جزاء.. فالعمل الطيب إذا رآه صاحبه سرّ به، ورأى في وجهه البشير الذي يحمل إليه رحمة اللّه ورضوانه في هذا اليوم العظيم.. والعمل السيء إذا رآه صاحبه حاضرا بين يديه في مقام الحساب، ساءه ذلك، وملأ نفسه حسرة وغما، إذ كان هو الشاهد الذي يشهد بتأثيمه وتجريمه.
ومثقال الذرة: وزنها.
والذرة: هباءة من غبار، لا ترى إلا في ضوء الشمس المتسلل من كوّة في مكان مظلم.. وعن ابن عباس: الذرّ ما يلتصق بيدك إذا مست التراب.

.سورة العاديات:

نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة العصر.
عدد آياتها: إحدى عشرة آية.
عدد كلماتها: أربعون كلمة.
عدد حروفها: مائة وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
الزلزلة التي تزلزلها الأرض يوم البعث، وإخراج الأرض أثقالها وما في جوفها من الموتى، وصدور الناس أشتاتا من القبور إلى موقف الحشر، والمواجهة هناك بين الكافرين والمؤمنين- كل هذا تمثله صورة واقعة في الحياة، نجدها حين تقوم حالة حرب بين الناس، فتزلزل الأرض تحت أقدام الجيوش الزاحفة نحو ساحة القتال، بما يركبون من خيل، وما يحملون من عدد القتال، وهم يصدرون من بيوتهم في سرعة الرياح العاصفة إلى لقاء العدو، لا يمسكهم شيء عن الانطلاق حتى يبلغوا ساحة الحرب.
قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم ** طاروا إليه زرافات ووحدانا

هكذا يوم الحرب.. إنه من يوم القيامة قريب في أهواله، وشدائده، وما يلقى الناس منه، من هول وشدة.
ففى ميدان الحرب، حساب وجزاء، وربح وخسران، وهول وفزع، يشمل المحاربين جميعا.
فالحرب، وميدانها في الدنيا، هي أقرب شيء يمثّل به المحشر، والحساب، والجزاء في الآخرة.
ولهذا جاءت سورة العاديات تالية سورة الزلزلة، لهذه المشابه التي بينهما.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً}.
العاديات: جمع عادية، وهى الخيل تعدو في خفّة، وسرعة، كما يعدو خفيف الوحش.
والضبح: ما يخرج من صدور الخيل من أصوات وهى تعدو، أشبه بأنفاس الإنسان وهو يلهث أثناء الجري.. وسمى ضبحا حكاية لصوت الخيل الذي يشبه صوت هذا اللفظ عند النطق به ضبح.
والمقسم به هنا، هو الخيل، في حال عدوها، حاملة فرسانها إلى ميدان القتال.. فهى تعدو ضابحة، وهى في عدوها تورى نارا تنقدح من احتكاك حوافرها بالحجارة التي تعدو عليها.
وفى هذا ما يشير إلى أنها تسير تحت جنح الظلام بفرسانها حتى لا تراها عين العدوّ، وحتى لا ينذر بها هذا العدوّ، ويأخذ حذره من المفاجأة حين تطلع عليه على غير انتظار، ولهذا يظهر هذا الشرر الذي ينقدح من احتكاك حوافرها بالصوّان.. كما يقول الشاعر في وصف سيوف الأبطال في الحرب:
تقدّ السلوقىّ المضاعف نسجه ** وتوقد بالصّفاح نار الحباحب

فإذا بلغت الخيل المكان الذي تشرف به على عدوّها، أمسكت عن السير، حتى تهجم عليه وتبغته على حين غفلة منه، مع مطلع الصبح، قبل أن يدبّ دبيب الحياة في الأحياء.
فهذه ثلاثة أقسام بالحيل في مسيرتها نحو الحرب.. فأقسم بها سبحانه، وهى في أول طريقها إلى القتال، ثم أقسم بها، وهى تكيد العدو، فتسير إليه ليلا، وتستخفى نهارا، ثم أقسم بها، وهى تلقى العدوّ بغتة مع أول النهار.
وفى هذا تعظيم لمسيرة هذه الخيل في كل حال من أحوالها، وإنها لجدير بها أن تكون خيل المؤمنين، التي تسير هذه المسيرة المباركة للجهاد في سبيل اللّه، وإن هذا التدبير لجدير أن يكون من تدبير المؤمنين في لقاء العدوّ، فيلقون عدوّهم بالعدد، والعدد، وبالتدبير والمكيدة.
وبهذا يكتب لهم الغلب، ويتحقق لهم النصر.
قوله تعالى: {ضَبْحاً وقَدْحاً وصُبْحاً} منصوبة على الحال من العاديات.. بمعنى ضابحة، وقادحة، ومصبحة العدوّ.
قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
هو إلفات إلى موقف الخيل، وقد دخلت ميدان القتال، إنها تثير فيه النقع، أي الغبار بحركاتها، وتنقّل فرسانها عليها، بين كرّ وفرّ، ومحاورة ومداورة، انتهازا للفرصة التي تمكّن من العدو، وتصيبه في مقاتله.
والضمير في {به} يعود إلى ميدان القتال المفهوم من مسيرة هذه الخيل العادية.. إنها الخيل تعدو إلى جهاد في سبيل اللّه، وليست الخيل التي تعدو للصيد واللهو، ونحو هذا.
قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً}.
إشارة إلى أنها وإن جاءت فرادى، وهى متجهة إلى ميدان القتال، فإنها لا تشتبك مع العدوّ في الحرب إلا مجتمعة، حيث يضرب المغيرون عليها عدوّهم بيد مجتمعة قوية متمكنة.
وفى قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} إشارة أخرى إلى أنّ هذه الخيل إنما تدخل المعمعة بفرسانها، وتهجم على قلب العدوّ، وتدخل في كيانه، لا أنها تخطف الخطفة من بعد، دون أن تلتحم بالعدوّ، وتختلط به، وفى العطف بالفاء في قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} في هذا ما يشعر بأن هذين الفعلين من أفعال الخيل العاديات، وأنهما داخلان في حيّز القسم بها، والتقدير: والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فالمثيرات به نقعا، فالمتوسطات به جمعا.
وكل هذا الذي يشير إليه القرآن الكريم، هو تخطيط للحرب، ولما ينبغى أن يكون من تدبير جيش المسلمين في لقاء العدوّ.. فهو درس بليغ في الحرب، يأتى عرضا، فيكون أثره أبلغ وأوقع من الدرس المباشر، الذي يواجه الإنسان مواجهة الأستاذ لتلميذه.. فلقد جاء العرض للخيل، وفرسانها، وأفعالهم في الحرب، والمسلمون محصورون في مكة، واقعون تحت قبضة المشركين، لا يدور في تفكيرهم أبدا أنهم سيكونون يوما هم فرسان هذه الخيل، وهم جنود اللّه، تعدو بهم هذه العاديات إلى الجهاد في سبيل اللّه، فيمكن اللّه لدينه بهم في الأرض، ويقيم بهم دولة الإسلام!.
يقول الأستاذ الإمام محمد عبده، معلقا على هذا الدرس الذي يلقّنه القرآن الكريم لأتباعه في الإعداد للحرب، والتمكن من وسائلها:
أفليس من أعجب العجب أن ترى أمما- وخير من هذا أن يقال أمّة، لأن المسلمين أمة لا أمم- هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخير تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى؟ أليس من أغرب ما يستغرب أن أناسا يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم، يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشدّ الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولة، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليه بالبنان، عند ما كنت أكلّمه في منافع بعض العلوم وفوائدها في علم الدين- أن قال لى: إذا كان كل ما يفيد في الدين نعلّمه لطلبة العلم، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل؟! يقول هذا ليفحمنى، وتقوم له الحجة علىّ، كأنّ تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم، وهم يقولون: إن العلماء ورثة الأنبياء فهل هذه الأعمال، وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب؟ أنصف واحكم!.
والحق ما قال الإمام، فإن فرسان الحرب في الإسلام، كانوا أئمة المسلمين، والقمم العالية فيهم، وحسبنا أن نذكر هنا على بن أبى طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وعبيدة بن الجراح، وطلحة والزبير، وسعد ابن أبى وقاص، وغيرهم وغير هم كثير كثير! ولو أن صحابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهدوا عصر الدبابات، والطائرات، والصواريخ، لكانوا أساتذة هذا الميدان، إبداعا واستعمالا، ولكانت الأمم التي تملك الصواريخ اليوم أمما متخلفة، بالنسبة إليهم.. ذلك أن نفوسهم أشرقت بنور الحق، وقلوبهم امتلأت بقوة الإيمان وعزته، فعظمت نفوسهم، واتسعت آمالهم، وأبت عليهم نفوسهم العالية، وهممهم العظيمة أن يسبقها سابق فيما يكسب العزة والسيادة، والمجادة.. فإذا صغرت النفوس، وضعفت الهمم، رضيت بالدّون، واستغنت بالتافة الحقير من الأمور.
فليس بالمؤمن من صغرت نفسه، وضؤل شخصه، وأمسك من دنياه بقبض الريح منها.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
وإنه لا عزة مع الضعف، ولا إيمان بغير القوة والعزة.. القوة في المادة والروح جميعا.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}.
هو جواب القسم بالعاديات.
والكنود: الجاحد لنعمة ربه، المنكر لإحسانه إليه.
وهذا شأن كثير من الناس، بل هو شأن معظم الناس، ولهذا جاء الحكم مطلقا، إذ ليس في الناس إلا قلة قليلة هي التي تعرف فضل اللّه عليها، وإحسانه إليها، ومع هذا فإنها لن تبلغ مهما اجتهدت، ما ينبغى للّه سبحانه من حمد وشكر.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ] وفى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ} استدعاء للإنسان أن يستحضر وجوده، وأن يحاسب نفسه، وسيرى- إن كان على علم وحق- أنه مقصر في حق اللّه، جاحد لفضله عليه.. وأن حبه الشديد لتحصيل المال، والاستكثار منه، هو آفته التي تنسيه فضل اللّه عليه، فيغمط حقوق اللّه، ويعمى عن وجوه الإنفاق في سبيل اللّه.. وفى التعبير عن المال بلفظ الخير- إشارة إلى أنه خير في ذاته، ولكنه قد يتحول في أيدى كثير من الناس إلى شر مستطير يحرق أهله!! وقوله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ}.
أي أفلا يعلم هذا الإنسان الكنود، وهو يحاسب نفسه، أنّه إذا بعثر ما في القبور، وخرج الموتى من قبورهم إلى المحشر، {وحصّل} أي جمع ما في صدورهم من خفايا أعمالهم، ورأوه عيانا بين أيديهم- أفلا يعلم ما يكون عليه حاله يومئذ، وما ينزل به من عذاب اللّه؟.
وفى حذف مفعول الفعل {يعلم}.
استدعاء للعقل أن يبحث عن هذا المفعول، وأن يستدلّ عليه، وفى هذا ما يدعوه إلى إعمال فكره، فيجد العبرة والعظة.. أي أفلا يعلم ما يكون في هذا اليوم؟ إنه لو علم لكان له مزدجر عن غيّه وضلاله.
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
هو تعقيب على هذا السؤال: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ}.
أي فإذا لم يكن يعلم ماذا يكون في هذا اليوم، فليذكر هذه الحقيقة المطلقة، التي ينادى بها في الوجود كله، وهى حقيقة ثابتة: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}.
إذا علم هذه الحقيقة، وآمن بها، علم ماذا يكون عليه حاله يومئذ.. إن ربه الذي يعلم كل شيء، قد علم ما كان منه في الدنيا، وأنه محاسبه على ما عمل.
وليس الظرف في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} قيد لعلم اللّه وحصره في هذا اليوم، بل إن علم اللّه بما يعمل الناس، هو علم دائم متصل، ولكن علمه في هذا اليوم بأعمال الناس، يقتضى محاسبتهم عليها، وجزاءهم بما عملوا.. فهذا يوم الجزاء لعمل كل عامل.